فصل: تفسير الآيات (19- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (19- 21):

قوله تعالى: {أولمْ يروْا إِلى الطّيْرِ فوْقهُمْ صافّاتٍ ويقْبِضْن ما يُمْسِكُهُنّ إِلّا الرّحْمنُ إِنّهُ بِكُلِّ شيْءٍ بصِيرٌ (19) أمّنْ هذا الّذِي هُو جُنْدٌ لكُمْ ينْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرّحْمنِ إِنِ الْكافِرُون إِلّا فِي غُرُورٍ (20) أمّنْ هذا الّذِي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك رِزْقهُ بلْ لجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ (21)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر بمصارع الأولين، وكان التذكير بالحاصب تذكيرا لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيرا لهم من ذلك إن تمادوا على كفره، ولم ينقادوا إلى شكره، فكان التقدير تقريرا لزيادة قدرته وحسن تدبيره ولطف تربيته حيث جبر الطير لضعفها بالطيران ليكمل بعموم رحمانيته أمر معاشها تقريرا لأن بيده الملك وترهيبا من أن ينازعه أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفا عن خطابهم، إيذانا بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين، عطف عليه قوله معرضا عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها: {أو لم يروا} وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل.
وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال: {إلى الطير} وهو جمع طائر.
ولما كان الجو كله مباحا للطيران نزع الجار فقال: {فوقهم} وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفا لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها {صافات} أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوجاج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفا أو صفا واحدا في غاية الانتظام تابعة لإمام منها.
ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، والبقض طارئ على البسط فقال: {ويقبضن} أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتا بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء.
ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله: {ما يمسكهن} أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع.
ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال: {إلا الرحمن} أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن- بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد- على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة للجري في الهواء بما أوجد لها من القوادم والحوافي وغير ذلك من الهيئات المقابلة لذلك، وكذا جميع العالم لو أمسك عنه حفظه طرفة عين لفسد بتهافت الأفلاك وتداعي الجبال وغيرها، وعبر في النحل بالاسم الأعظم لأن سياقها للرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة الذين لا يقوم بالرد عليهم إلا المتبحر في معرفة جميع أصول الدين بمعرفة جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى التي جمعها اسم الذات.
ولما كان هذا أمرا رائعا للعقل، ولكنه لشدة الإلف صار لا يتنبه له إلا بالتنبيه، وكان الجاهل ربما ظن أن التقدير على الطيران خاص بالطير، نبه سبحانه على عظمة ما هيأ الطير له وعلى أنه يقدر أن يجعل ذلك لغيره بقوله مؤكدا لأجل قصور بعض العقول عن التصديق بذلك وتضمن الإشراك للطعن في تمام الاقتدار المتضمن للطعن في تمام العلم: {إنه} أي الرحمن سبحانه {بكل شيء} قل أو كثر جليل وحقير ظاهر وباطن {بصير} بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها، فمهما أراد كان وهو يخلق العجائب ويوجد الغرائب، فيهيئ من أراد من الآدميين وغيرهم لمثل ذلك.
ولما كان التقدير تقريرا لذلك: فمن يدبر مصالحكم ظاهرا وباطنا، وفعل هذه الأنواع من العذاب بالمكذبين من قبلكم، عطف عليه قوله عائدا إلى الخطاب لأنه أقعد في التكبيث والتوبيخ، وأدل على أن المخاطب ليس بأهل لأن يهاب مقررا لأنه مختص بالملك: {أمن} ونبه على أن المدبر للأشياء لابد أن يكون في غاية القرب والشهادة لها ليكون بصيرا برعيها، ويكون مع مزيد قربه عالي الرتبة بحيث يشار إليه، فقال مقررا لعجز العباد: {هذا} بإشارة الحاضر {الذي} وأبرز العائد لأنه لابد من إبرازه مع الاسم بعدم صلاحه لتحمل الضمير فقال: {هو جند} أي عسكر وعون، وصرف القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في التقريع فقال: {لكم ينصركم} أي على من يقصدكم بالخسف والحصب وغيرهما، ويجوز أن يكون التقدير: ألكم إله يدبر مصالحكم غيرنا أم كان الذي عذب من كذب الرسل سوانا أم لكم جند يصار إليه ينصركم دوننا كما قال تعالى: {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} [الأنبياء: 43] ولكنه أخرجه مخرج الاستفهام عن تعيين الجند تعريفا بأنهم لغاية جهلهم اعتقدوا أن لهم من أجناد الأرض أو السماء من ينصرهم وإلا لما كانوا آمنين.
ولما كانت المراتب متضائلة عن جنابه متكثرة جدا، قال تعالى مشيرا بالحرف والظرف إلى ذلك منبها على ظهوره سبحانه فوق كل شيء، لم يقدر أحد ولا يقدر أن ينازعه في ذلك ولا في أنه مستغرق لكل ما دونه من المراتب: {من دون الرحمن} إن أرسل عليكم عذابه، وأظهر ولم يضمر بعثا على استحضار ما له من شمول الرحمة، وتلويحا إلى التهديد بأنه لو قطعها عن أحد ممن أوجده عمه الغضب كله، ولذلك قال مستنتجا عنه تنبيها على أن رفع المضار وجمع المسار ليس إلا بيده لأنه المختص بالملك: {إن} أي ما، وأبرز الضمير تعميما وتعليقا للحكم بالوصف ومواجهة بذلك لأنه أقعد في التوبيخ فقال: {الكافرون} أي العريقون في الكفر وهم من يموت عليه {إلا في غرور} أي قد أحاط بهم فلا خلاص لهم منه وهو أنهم يعتمدون على غير معتمد.
ولما قدم أعظم الرحمة بالحياطة والنصرة الموجبة للبقاء، أتبعه ما يتم به البقاء فقال: {أمّن} وأشار إلى القرب بالعلم والبعد بالعلو والعظمة بقوله: {هذا} وأشار إلى معرفة كل أحد له بصفاته العلية التي تنشأ عنها أفعاله المحكمة السنية، فقال: {الذي} وأسقط العائد لتحمل الفعل له فقال: {يرزقكم} أي على سبيل التجدد والاستمرار، لا ينقطع معروفه أبدا مع أنه قد وسع كل شيء ولا غفلة له عن شيء {إن أمسك رزقه} بإمساك الأسباب التي تنشأ عنها ويكون وصوله إليكم منها كالمطر، ولو كان الرزق موجودا أو كثيرا وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الازدراء عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة.
ولما قامت بهذا دلائل قدرته وشمول علمه على سبيل العموم فالخصوص، فكان ذلك مظنة أن يرجع الجاحد ويخجل المعاند، ويعلم الجاهل ويتنبه الغافل، فكان موضع أن يقال: هل رجعوا عن تكذيبهم، عطف عليه قوله لافتا الكلام إلى الغيبة إعراضا عنهم تنبيها على سقوط منزلتهم وسوء أفهامهم وقوة غفلتهم: {بل لجوا} أي تمادوا سفاهة لا احتياطا وشجاعة، قال الرازي في اللوامع: واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه {في عتو} أي مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد {ونفور} أي شراد عن حسن النظر والاستماع، دعا إليه الطباع، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سار ولا دفع ضار، والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {أو لمْ يروْا إِلى الطير فوْقهُمْ صافات ويقْبِضْن}.
{صافّات} أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها {ويقْبِضْن} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قيل لم قال: {ويقْبِضْن} ولم يقل وقابضات، قلنا: لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارئ غير أصلي بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السابح.
ثم قال تعالى: {ما يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الرحمن} وذلك لأنها مع ثقلها وضخامة أجسامها لم يكن بقاؤها في جو الهواء إلا بإمساك الله وحفظه، وهاهنا سؤالان:
السؤال الأول: هل تدل هذه الآية على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله، قلنا: نعم، وذلك لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري للطير.
ثم إنه تعالى قال: {ما يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الرحمن} فدل هذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
السؤال الثاني: أنه تعالى قال في النحل [79]: {ألمْ يروْاْ إلى الطير مسخرات في جوّ السماء ما يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الله} وقال ههنا: {ما يُمْسِكُهُنّ إِلاّ الرحمن} فما الفرق؟ قلنا: ذكر في النحل أن الطير مسخرات في جو السماء فلا جرم كان إمساكها هناك محض الإلهية، وذكر هاهنا أنها صافات وقابضات، فكان إلهامها إلى كيفية البسط، والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن.
ثم قال تعالى: {إِنّهُ بِكُلّ شيء بصِيرٌ} وفيه وجهان الوجه الأول: المراد من البصير، كونه عالما بالأشياء الدقيقة، كما يقال: فلان بصر في هذا الأمر، أي حذق والوجه الثاني: أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول: إنه تعالى شيء، والله بكل شيء بصير، فيكون رائيا لنفسه ولجميع الموجودات، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه تعالى يصح أن يكون مرئيا وأن كل الموجودات كذلك، فإن قيل: البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم، يقال: فلان بصير بكذا إن كان عالما به، قلنا: لا نسلم، فإنه يقال: إن الله سميع بالمسموعات، بصير بالمبصرات.
{أمّنْ هذا الّذِي هُو جُنْدٌ لكُمْ ينْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرّحْمنِ إِنِ الْكافِرُون إِلّا فِي غُرُورٍ (20)}
اعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان، ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان تعويلهم على شيئين أحدهما: القوة التي كانت حاصلة لهم بسبب مالهم وجندهم والثاني: أنهم كانوا يقولون: هذه الأوثان، توصل إلينا جميع الخيرات، وتدفع عنا كل الآفات وقد أبطل الله عليهم كل واحد من هذين الوجهين، أما الأول فبقوله: {أمّنْ هذا الذي هُو جُندٌ لّكُمْ ينصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} وهذا نسق على قوله: {أمْ أمِنتُمْ مّن في السماء} [الملك: 17] والمعنى أم من يشار إليه من المجموع، ويقال: هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله إن أرسل عذابه عليكم، ثم قال: {إِنِ الكافرون إِلاّ في غُرُورٍ} أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
أما الثاني فهو قوله: {أمّنْ هذا الذي يرْزُقُكُمْ إِنْ أمْسك رِزْقهُ}.
والمعنى: من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم، وهذا أيضا مما لا ينكره ذو عقل، وهذا أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى: {بل لّجُّواْ في عُتُوّ ونُفُورٍ} والمراد أصروا وتشددوا مع وضوح الحق، في عتو أي في تمرد وتكبر ونفور، أي تباعد عن الحق وإعراض عنه فالعتو بسبب حرصهم على الدنيا وهو إشارة إلى فساد القوة العملية، والنفور بسبب جهلهم، وهذا إشارة إلى فساد القوة النظرية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أولمْ يروْا إِلى الطير فوْقهُمْ صافّاتٍ} أي كما ذلّل الأرض للآدمي ذلّل الهواء للطيور.
و{صافّات} أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففْن قوائمها صفّا.
{ويقْبِضْن} أي يضربن بها جُنُوبهُنّ.
قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحيه: صافٌّ، وإذا ضمّهما فأصابا جنْبه: قابض؛ لأنه يقبضهما.
قال أبو خِراش:
يبادر جُنْح الليل فهو مُوائل ** يحُثّ الجناح بالتبسُّطِ والْقبضِ

وقيل: ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران.
وهو معطوف على {صافّاتٍ} عطف المضارع على اسم الفاعل؛ كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر:
بات يُعشّيها بعضْب باتر ** يقْصِدُ في أسْوُقها وجائِرِ

{ما يُمْسِكُهُنّ} أي ما يمسك الطير في الجوّ وهي تطير إلا الله عز وجل.
{إِنّهُ بِكُلِّ شيْءٍ بصِيرٌ}.
قوله تعالى: {أمّنْ هذا الذي هُو جُندٌ لّكُمْ} قال ابن عباس: حزب ومنعة لكم.
{ينصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن} فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه.
ولفظ الجُنْد يُوحّد؛ ولهذا قال: {هذا الذي هُو جُندٌ لّكُمْ} وهو استفهام إنكار؛ أي لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله {مِّن دُونِ الرحمن} أي من سوى الرحمن.
{إِنِ الكافرون إِلاّ فِي غُرُورٍ} من الشياطين؛ تغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب.
قوله تعالى: {أمّنْ هذا الذي يرْزُقُكُمْ} أي يعطيكم منافع الدنيا.
وقيل المطر من آلهتكم.
{إِنْ أمْسك} يعني الله تعالى رزقه.
{بل لّجُّواْ} أي تمادوا وأصروا.
{فِي عُتُوٍّ} طغيان {ونُفُورٍ} عن الحق. اهـ.